فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ}
تقسيم مثل قوله: {فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير} [الشورى: 7].
وقال: {يومئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الذين آمَنُواْ} [الروم: 14-15] الآيتين.
{يَصْلَوْنَهَا} أي يصيبهم لهبُها وحَرّهُا {يوم الدين} أي يوم الجزاء والحساب، وكرر ذكره تعظيماً لشأنه؛ نحو قوله تعالى: {القارعة مَا القارعة وَمَآ أَدْرَاكَ مَا القارعة} [القارعة: 1-3] وقال ابن عباس فيما روي عنه: كل شيء من القرآن من قوله: {وَمَآ أَدْرَاكَ}؟ فقد أدراه، وكل شيء من قوله: {وما يُدْرِيك} فقد طُوِي عنه.
{يوم لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو {يوم} بالرفع على البدل من {يوم الدينِ} أو رداً على اليوم الأوّل، فيكون صفة ونعتاً لـ{يوم الدينِ}.
ويجوز أن يرفع بإضمار هو.
الباقون بالنصب على أنه في موضع رفع إلاّ أنه، نصب؛ لأنه مضاف غير متمكن؛ كما تقول: أعجبني يوم يقومُ زيد.
وأنشد المبرد:
مِن أَيِّ يوميَّ مِنَ الموتِ أَفِرّ ** أيوم لم يقْدَرَ أم يوم قُدِرْ

فاليومان الثانيان مخفوضان بالإضافة، عن الترجمة عن اليومين الأوّلين، إلا أنهما نصبا في اللفظ؛ لأنهما أضيفا إلى غير محضٍ.
وهذا اختيار الفراء والزجَّاج.
وقال قوم: اليوم الثاني منصوب على المحل، كأنه قال في يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً.
وقيل: بمعنى: إن هذه الأشياء تكون يوم، أو على معنى يُدانون يوم؛ لأن الدِّين يدل عليه، أو بإضمار اذكر.
{والأمر يومئِذٍ لِلَّهِ} لا ينازعه فيه أحد؛ كما قال: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ اليوم} [غافر: 16-17].
تمت السورة والحمد لله. اهـ.

.قال أبو السعود:

وقوله تعالى: {إِنَّ الأبرار لَفِى نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار لَفِى جَحِيمٍ}
استئنافٌ مسوق لبيان نتيجةِ الحفظِ والكتابِ من الثوابِ والعقابِ وفي تنكيرِ النعيمِ والجحيم من التفخيمِ والتهويلِ ما لا يخفى.
وقوله تعالى: {يَصْلَوْنَهَا} إما صفةٌ لجحيمٍ أو استئنافٌ مبنيٌّ على سؤالٍ نشأَ منْ تهويلِها كأنَّه قيلَ: ما حالُهم فيها فقيلَ يُقاسونَ حرَّهَا {يوم الدين} يوم الجزاءِ الذي كانُوا يكذبونَ بهِ {وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغائبين} طرفةَ عينٍ فإن المرادَ دوامُ نفِي الغيبةِ لا نفي دوامِ الغيبة لما مرَّ مِراراً من أنَّ الجملة الاسميةَ المنفيةَ قد يُرادُ بَها اسمرارُ النَّفِي لا نفيُ الاستمرارِ باعتبارِ ما تفيدُه من الدوامِ والثباتِ بعد النَّفِي لا قبلَهُ وقيل: معناهُ وما كانُوا غائبين عنها قيلَ: ذلكَ بالكليةِ بل كانُوا يجدونَ سمومَها في قبورِهم حسبَما قال النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسلام: «القبرُ روضةٌ من رياض الجنةِ أو حفرةٌ من حُفَرِ النيرانِ» وقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يوم الدين ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يوم الدين} تفخيمٌ لشأن {يوم الدينِ} الذي يكذبونَ به إثرَ تفخيمٍ وتهويلٌ لأمرِه بعدَ تهويلٍ ببيانِ أنَّه خارجٌ عن دائرةِ درايةِ الخلقِ على أيِّ صورةٍ تصورُوه فهو فوقَها وكيفما تخيلوه فهو أطمُّ من ذلكَ وأعظمُ أيْ وأيُّ شيءٍ جعلكَ دارياً ما يوم الدينِ، على أنَّ ما الاستفهاميةَ خبرٌ لـ: {يوم الدينِ} لا بالعكسُ كما هُو رأي سيبويهٍ لما مرَّ من أنَّ مدارَ الافادةِ هُو الخبرُ لا المبتدأُ، ولا ريبَ في أنَّ مناطَ إفادةِ الهولِ والفخامةِ هُنا هو مَا لا يوم الدينِ أيْ أيُّ شيءٍ عجيبٍ هو في الهولِ والفظاعةِ لما مرَّ غيرَ مرةٍ أن كلمةَ مَا قد يطلبُ بها الوصفُ وإن كانتْ موضوعةً لطلبِ الحقيقةِ وشرحِ الاسمِ يقال ما زيدٌ فيقال في الجوابِ كاتبٌ أو طبيبٌ وفي إظهارِ {يوم الدينِ} في موقعِ الاضمارِ تأكيدٌ لهولِه وفخامتِه.
وقوله تعالى: {يوم لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يومئِذٍ لِلَّهِ} بيانٌ إجماليٌّ لشأن {يوم الدينِ} إثرَ إبهامِه وبيانِ خروجِه عنْ علومِ الخلقِ بطريقِ إنجازِ الوعدِ فإنَّ نفيَ إدرائِهم مشعرٌ بالوعد الكريمِ بالإدراءِ قال ابنُ عباسٍ رضيَ الله عنهُما: كلُّ ما في القرآن من قوله تعالى: {ما أدراكَ} فقدْ أدراهُ وكلُّ ما فيهِ من قوله: {وما يدريكَ} فقد طُويَ عنْهُ. و{يوم} مرفوعٌ على أنَّه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ وحركتُه الفتحِ لإضافتِه إلى غيرِ متمكنٍ كأنَّه قيلَ: هُو يوم لا يملكُ فيه نفسٌ من النفوسِ شيئاً من الأشياءِ إلخ أو منصوبٌ بإضمار اذكُرْ كأنَّه قيلَ: بعد تفخيمِ أمرِ {يوم الدينِ} وتشويقِه عليه الصلاةُ والسلامُ إلى معرفتِه اذكُر يوم لا تملكُ نفسٌ إلخ فإنه يُدريكَ ما هُو وقيلَ بإضمارِ يُدانونَ وليسَ بذاكَ فإنه عارٍ عن إفادةِ ما يفيدُه ما قبلَهُ كما أنَّ إبدالهُ من {يوم الدينِ} على قراءة الرفعِ كذلكَ بل الحقُّ حينئذٍ الرفعُ على أنَّه خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِنَّ الأبرار لَفِى نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار لَفِى جَحِيمٍ}
استئناف مسوق لبيان نتيجة الحفظ والكتب من الثواب والعقاب وفي تنكير النعيم والجحيم ما لا يخفى من التفخيم والتهويل وقوله تعالى: {يَصْلَوْنَهَا} أما صفة للجحيم أو حال من ضمير {الفجار} في الخبر أو استئناف مبني على سؤال نشأ من تهويلها كأنه قيل ما حالهم فيها فقيل يقاسون حرها وقرأ ابن مقسم {يصلونها} مشدداً مبنياً للمفعول.
{يوم الدين} يوم الجزاء الذي كانوا يكذبون به استقلالاً أو في ضمن تكذيبهم بالإسلام.
{وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغائبين} طرفة عين فإن المراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار وهو كقوله تعالى: {وَمَا هُم بخارجين منها} [المائدة: 37] في الدلالة على سردمية العذاب وأنهم لا يزالون محسين بالنار وقيل معناه وما كانوا غائبين عنها قبل ذلك بالكلية بل كانوا يجدون سمومها في قبورهم حسبما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار» على أن غائبين من حكاية الحال الماضية والجملة قيل على الوجهين في موضع الحال لكنها على الأول حال مقدرة وعلى الثاني من باب {جاؤكم حصرت صدورهم} [النساء: 90] وقيل إنها على الأول حالية دون الثاني لانفصال ما بين صلى النار وعذاب القبر بالبعث وما في موقف الحساب بل هي عليه معطوفة على ما قبلها ويحتمل اسم الفاعل فيها أعني غائبين على الحال أي وما هم عنها بغائبين الآن لتغاير المعطوف عليه الذي أريد به الاستقبال والكلام على ما عرف في أخباره تعالى من التعبير عن المستقبل بغيره لتحققه فلا يرد أن بعض الفجار في زمرة الأحياء بعد وبعضهم لم يخلق كذلك وعذاب القبر بعد الموت فكيف يحمل (غائبين) على الحال.
وقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يوم الدين ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يوم الدين} تفخيم لشأن يوم الدين الذي يكذبون به أثر تفخيم وتعجيب منه بعد تعجيب والخطاب فيه عام والمراد أن كنه أمره بحيث يدركه دراية داري وقيل الخطاب لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم وقيل للكافر والإظهار في موضع الإضمار تأكيد لهول يوم الدين وفخامته وقد تقدم الكلام في تحقيق كون الاستفهام في مثل ذلك مبتدأ أو خبراً مقدماً فلا تغفل.
وقوله سبحانه: {يوم لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يومئِذٍ لِلَّهِ} بيان إجمالي لشأن يوم الدين إثر أبهامه وإفادة خروجه عن الدائرة الدراية قيل بطريق إنجاز الوعد فإن نفي الإدراء مشعر بالوعد الكريم بالادراء على ما روى عن ابن عباس من أنه قال كل ما في القرآن من قوله تعالى: {مَا أَدْرَاكَ فَقَدْ} وكل ما فيه من قوله عز وجل: {مَا يُدْرِيكَ} [الأحزاب: 63] فقد طوى عنه و{يوم} منصوب بإضمار اذكر كأنه قيل بعد تفخيم أمر يوم الدين وتشويقه صلى الله عليه وسلم إلى معرفته اذكر يوم لا تملك نفس من النفوس لنفس من النفوس مطلقاً لا للكافرة فقط كما روى عن مقاتل شيئاً من الأشياء إلخ فإنه يدريك ما هو أو مبني على الفتح محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف على رأي من يرى جواز بناء الظرف إذا أضيف إلى ير متمكن وهم الكوفيون أي هو يوم لا تملك الخ.
وقيل هو نصب على الظرفية بإضمار يدانون أو يشتد الهول أو نحوه مما يدل عليه السياق أو هو مبنى على الفتح محله الرفع على أنه بدل من {يوم الدين} وكلاهما ليسا بذاك لخولهما عن إفادة ما أفاده ما قبل وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى وابن جندب وابن كثير وأبو عمرو {يوم} بالرفع بلا تنوين على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو يوم لا بدل لما سمعت آنفاً.
وقرأ محبوب عن أبي عمرو {يوم} بالرفع والتنوين فجملة {لا تملك} إلخ في موضع الصفة له والعائد محذوف أي في والأمر كما قال في الكشف واحد الأوامر لقوله تعالى: {لمن الملك اليوم} [غافر: 16] فإن الأمر من شأن الملك المطاع واللام للاختصاص أي الأمر له تعالى لا لغيره سبحانه لا شركة ولا استقلالاً أي أن التصرف جميعه في قبضة قدرته عز وجل لا غير وفي تحقيق قوله تعالى: {لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً} لدلالته على أن الكل مسوسون مطيعون مشتغلون بحال أنفسهم مقهورون بعبوديتهم لسطوات الربوبية وقيل واحد الأمور أعني الشأن وليس بذاك وقول قتادة فيما أخرجه عنه عبد بن حميد وابن المنذر أي ليس ثم أحد يقضي شيئاً ولا يصنع شيئاً غير رب العالمين تفسير لحاصل المعنى لا إيثار لذلك هذا وقوله وحده ليس بحجة يترك له الظاهر والمنازعة في الظهور مكابرة وأياً ما كان فلا دلالة في الآية على نفي الشفاعة يوم القيامة كما لا يخفى والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)}
فصلت هذه الجملة عن التي قبلها لأنها استئناف بياني جوابٌ عن سؤال يخطر في نفس السامع يثيره قوله: {بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحافظين} [الانفطار: 9، 10] الآية لتشوف النفس إلى معرفة هذا الجزاء ما هو، وإلى معرفة غاية إقامة الملائكة لإِحصاء الأعمال ما هي، فبُين ذلك بقوله: {إن الأبرار لفي نعيم} الآية.
وأيضاً تتضمن هذه الجملة تقسيم أصحاب الأعمال فهي تفصيل لجملة {يعلمون ما تفعلون} [الانفطار: 12] وذلك من مقتضيات فصل الجملة عن التي قبلها.
وجيء بالكلام مؤكداً بـ: {إن} ولا الابتداء ليساوي البيانُ مبيّنهُ في التحقيق ودفع الإنكار.
وكرر التأكيد مع الجملة المعطوفة للاهتمام بتحقيق كونهم في جحيم لا يطمعوا في مفارقته.
و{الأبرار}: جمعُ برّ بفتح الباء وهو التقيّ، وهو فَعْل بمعنى فاعل مشتق من بَرَّ يبر، ولفعل برّ اسم مصدر هو برّ بكسر الباء ولا يعرف له مصدر قياسيّ بفتح الباء كأنهم أماتوه لئلا يلتبس بالبَرّ وهو التقيّ.
وإنما سمي التقيّ بَرّاً لأنه بَرَّ ربه، أي صدقه ووفى له بما عهد له من الأمر بالتقوى.
و{الفُجَّار}: جمع فاجر، وصيغة فُعَّال تطّرد في تكسير فاعل المذكر الصحيح اللام.
والفاجر: المتصف بالفجور وهو ضد البرور.
والمراد بـ: {الفجّار} هنا: المشركون، لأنهم الذين لا يغيبون عن النار طرفة عين وذلك هو الخلود، ونحن أهل السنة لا نعتقد الخلود في النار لغير الكافر.
فأما عصاة المؤمنين فلا يخلدون في النار وإلا لبطلت فائدة الإِيمان.
والنعيم: اسم ما يَنْعم به الإِنسان.
والظرفية من قوله: {في نعيم} مجازية لأن النعيم أمر اعتباري لا يكون ظرفاً حقيقة، شبه دوام التنعم لهم بإحاطة الظرف بالمظروف بحيث لا يفارقه.
وأما ظرفية قوله: {لفي جحيم} فهي حقيقية.
والجحيم صار علماً بالغلبة على جهنم، وقد تقدم في سورة التكوير وفي سورة النازعات.
وجملة {يصلونها} صفة لـ: {جحيم}، أو حال من {الفجار}، أو حال من الجحيم، وصَلْيُ النار: مَسُّ حرّها للجسم، يقال: صلي النارَ، إذا أحس بحرّها، وحقيقته: الإِحساس بحرّ النار المؤلم، فإذا أريد التدفّي قيل: اصطلى.
و{يوم الدين} ظرف لـ: {يصلونها} وذُكر لبيان: أنهم يصلونها جزاء عن فجورهم لأن الدين الجزاء ويوم الدين يوم الجزاء وهو من أسماء يوم القيامة.
وجملة {وما هم عنها بغائبين} عطف على جملة {يصلونها}، أي يَصْلون حرّها ولا يفارقونها، أي وهم خالدون فيها.
وجيء بقوله: {وما هم عنها بغائبين} جملة اسمية دون أن يقال: وما يغيبون عنها، أو وما يفارقونها، لإفادة الاسمية الثبات سواء في الإثبات أو النفي، فالثّبات حالة للنسبة الخبرية سواء كانت نسبة إثبات أو نسبة نفي كما في قوله تعالى: {وما هم بخارجين من النار} في سورة البقرة (167).
وزيادة الباء لتأكيد النفي.
وتقديم {عنها} على متعلقه للاهتمام بالمجرور، وللرعاية على الفاصلة.
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يوم الدِّينِ (17)}
يجوز أن تكون حالية، والواو واو الحال، ويجوز أن تكون معترضة إذا جُعل {يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً} [الانفطار: 19] بدلاً من {يوم الدين} المنصوب على الظرفية كما سيأتي.
و{ما أدراك ما يوم الدين}: تركيب مركب من {ما} الاستفهامية وفعل الدراية المعدّى بالهمزة فصار فاعله مفعولاً زائداً على مفعولي دَرى، وهو من قبيل: أعلم وأرَى، فالكاف مفعوله الأول، وقد علق على المفعولين الآخرين بـ: {ما} الاستفهامية الثانية.
والاستفهام الأول مستعمل كناية عن تعظيم أمر اليوم وتهويله بحيث يَسْأل المتكلم من يسمعه عن الشيء الذي يحصِّل له الدراية بكنه ذلك اليوم، والمقصود أنه لا تصل إلى كنهه دراية دارٍ.
والاستفهام الثاني حقيقي، أي سأل سائل عن حقيقة يوم الدين كما تقول: علمت هل زيد قائم، أي علمت جواب هذا السؤال.
ومثل هذا التركيب مما جرى مجرى المثل فلا يغير لفظه، وقد تقدم بيانه مستوفى عند قوله تعالى: {وما أدراك ما الحاقة} [الحاقة: 3].
{ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يوم الدِّينِ (18)}
تكرير للتهويل تكريراً يؤذن بزيادته، أي تجاوزه حدّ الوصف والتعبير فهو من التوكيد اللفظي، وقرن هذا بحرف {ثمّ} الذي شأنه إذا عطف جملة على أخرى أن يفيد التراخي الرتبي، أي تباعد الرتبة في الغرض المسوق له الكلام، وهي في هذا المقام رتبة العظمة والتهويل، فالتراخي فيها هو الزيادة.
{يوم لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً}.
في هذا بيان للتهويل العظيم المجمل الذي أفاده قوله: {وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين} [الانفطار: 17، 18] إذ التهويل مشعر بحصول ما يخافه المهوَّل لهم فاتبع ذلك بزيادة التهويل مع التأييس من وجدان نصير أو معين.
وقرأه الجمهور بفتح {يوم} فيجوز أن يجعل بدلاً مطابقاً، أو عطف بيان من {يوم الدين} المرفوع بـ: {ما أدراك} وتجعل فتحتُه فتحةَ بناء لأن اسم الزمان إذا أضيف إلى جملة فعلية وكان فعلها معرباً جاز في اسم الزمان أن يبنى على الفتح وأن يعرب بحسب العوامل.
ويجوز أيضاً أن يكون بدلاً مطابقاً من {يوم الدين} المنصوب على الظرفية في قوله: {يَصلونها يوم الدين} [الانفطار: 15]، ولا يفوت بيان الإِبهام الذي في قوله: {وما أدراك ما يوم الدين} [الانفطار: 17] لأن {يوم الدين} المرفوع المذكور ثانياً هو عين {يوم الدين} المنصوب أولاً، فإذا وقع بيان للمذكور أولاً حصل بيان المذكور ثانياً إذ مدلولهما يوم متّحد.
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب مرفوعاً، فيتعين أن يكون بدلاً أو بياناً من {يوم الدين} الذي في قوله: {وما أدراك ما يوم الدين}.
ومعنى {لا تملك نفس لنفس شيئاً}: لا تقدر نفس على شيء لأجل نفس أخرى، أي لنَفعها، لأن شأن لام التعليل أن تدخل على المنتفِع بالفعل عكسَ (على)، فإنها تدخل على المتضرر كما في قوله تعالى: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} [البقرة: 286]، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وما أملك لك من اللَّه من شيء} في سورة الممتحنة.
وعموم {نفس} الأولى والثانية في سياق النفي يقتضي عموم الحكم في كل نفس.
و{شيئاً} اسم يدل على جنس الموجود، وهو متوغل في الإِبهام يفسره ما يقترن به في الكلام من تمييز أو صفة أو نحوهما، أو من السياق، ويبينه هنا ما دلّ عليه فعل {لا تملك} ولام العلة، أي شيئاً يغني عنها وينفعها كما في قوله تعالى: {وما أغني عنكم من اللَّه من شيء} في سورة يوسف (67)، فانتصب {شيئاً} على المفعول به لفعل {لا تملك}، أي ليس في قدرتها شيء ينفع نفساً أخرى.
وهذا يفيد تأييس المشركين من أن تنفعهم أصنامهم يومئذ كما قال تعالى: {وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء} [الأنعام: 94].
{شَيْئاً والأمر يومئِذٍ}.
وجملة {والأمر يومئذ للَّه} تذييل، والتعريف في {الأمر} للاستغراق.
والأمر هنا بمعنى: التصرف والإِذن وهو واحد الأوامِر، أي لا يأمر إلا الله ويجوز أن يكون الأمر مرادفاً للشيء فتغيير التعبير للتفنن.
والتعريف على كلا الوجهين تعريف الجنس المستعمل لإِرادة الاستغراق، فيعم كل الأمور وبذلك العموم كانت الجملة تذييلاً.
وأفادت لام الاختصاص مع عموم الأمر أنه لا أمر يومئذ إلا لله وحده لا يصدر من غيره فعل، وليس في هذا التركيب صيغة حصر ولكنه آيل إلى معنى الحصر على نحو ما تقدم في قوله تعالى: {الحمد للَّه} [الفاتحة: 2].
وفي هذا الختام رد العجز على الصدر لأن أول السورة ابتدئ بالخبر عن بعض أحوال يوم الجزاء وختمت السورة ببعض أحواله. اهـ.